:: الشيخ الحريزي يشيد بالمواقف النبيلة اليمنية والعربية تجاه الحملات المغرضة التي تستهدفه      :: الشيخ حمود سعيد المخلافي : المجلس الأعلى للمقاومة الشعبية أسس ليكون سنداً للجيش الوطني في معركة استعادة الدولة      :: شرطة مديرية سيحوت تلقي القبض على شخص يتعاطي ويروج الممنوعات في أحد فنادق المدينة       :: مركز التطوير الأكاديمي بجامعة المهرة يقيم أمسية رمضانية في المعايير البرامجية.     

كتابات

(الكتابة.. ونيران الأكباد) !

       د/ تامر الأشعري 18/10/2017 20:19:50
د/ تامر الأشعري.

للكتابة مكانة عالية في التأريخ الإنساني؛ ومن أظهر الأدلة على ذلك؛ أن العلماء قسموا أدوار التأريخ بناءً على ظهور التدوين والكتابة، فسموا المرحلة التي لم يكن الإنسان يدون فيها أحواله؛ بمرحلة "ما قبل التأريخ".

وعلى الرغم من هذه المكانة المتجذرة للكتابة في الوعي البشري؛ فإن للكتابة نقائص تحجزها عن اللحاق بالكلام الشفهي في بعض مقامات التخاطب خصوصًا.  

(دومينيك أراغو) أحد مشهوري علماء الفلَك الفرنسيين في القرن التاسع عشر.. كان هذا الرجل ممن أعطي فضيلة البيان والتبيين، حتى إنه كان يستطيع التلاعب في البيان إلى درجة أنه كان يعرض أعوص المسائل الفلكية –لمن لم يكن قد درس الرياضيات-؛ فيفهمه تفهيمًا يؤهِّله لتعلم العلوم الفلكية!
ويذكر المطّلعون على مؤلفاته؛ أنه كان في تأليف الكتب من النابغين؛ غير أنه لم يبلغ في كتبه تلك الموهبة البيانية التي أعطيَها في محاضراته الشفاهية!

إنها الفجوة بين الكلام الشفهي وبين الكتابة؛ بحيث تبدو الكلمات المنطوقة في مقام تخاطبي معين؛ ماردًا عملاقًا لا يستطيع قُمقُم الأوراق والأقلام هضمه ولا استيعابه!

وعلى سبيل المثال؛ يروي لنا أبو حيان التوحيدي عن شيخ خراساني أنه قال في شيء جَرَى: 
*_"والله لولا شيء لقطعتك تقطيعًا، وبضَّعتك تبضيعًا، ووزّعتك توزيعًا، ومزّعتك تمزيعًا، وجرّعتك تجريعًا، وأدخلتك في حِر أمّك... -ثم توقف وقفةً وقال-:* جميعًا"!*

يقول أبو حيان التوحيدي –عقب سرد هذه الحكاية-: 
*_"ومِلحُ هذه الحكاية ينتثر في الكتابة، وبهاؤها ينتقص بالرواية دون مشاهدة الحال وسماع اللفظ، وملاحة الشكل في التحرك والتثنّي، والترنّح والتَّهادي، ومدِّ اليد، وليِّ العنق، وهزّ الرأس والأكتاف، واستعمال الأعضاء والمفاصل"._*

وعبثًا يحاول الجاحظ في كتابه البخلاء؛ أن يصور لنا - عن طريق الكتابة - مشهدًا رآه عند أبي جعفر الطرسوسي، فيذكر عن أبي جعفر هذا أنه *_زار قومًا فأكرموه وطيبوه، وجعلوا في شاربه ولحيته عطرًا يسمى (الغالية)، فحكَّته شفته العليا؛ فأدخل إصبعه فحكها من باطن الشفة؛ مخافة أن تأخذ إصبعه من الغالية شيئًا إذا حكَّها من فوق"_*
 
يقول الجاحظ معلقًا على هذه الحادثة العجيبة:
 *_"وهذا وشبهه إنما يطيب جدًّا إذا رأيت الحكاية بعينك؛ لأن الكتاب [يقصد الكتابة] لا يصور لك كل شيء، ولا يأتي لك على كُنهه، و [لا] على حدوده وحقائقه"._*

فالكلام الشفهي –إذن- أوسع في هذه الناحية من الكتابة وأرحب صدرًا، وبسبب من ذلك؛ تولَّع العرب بالخِطابة قبل تولعهم بالكتابة، حتى قال الأستاذ الجاحظ في وصفهم: 
*"وأنت تعلم أنهم كانوا لا يسكتون، وكان ولوعهم بالكلام أشدَّ من ولوعهم بكل شيء، وكلُّ وُلوع كان لهم بعد الكلام؛ فإنما كان بالكلام"!*

زد على ما سلف؛ أن العرب كانوا يقبَلون بأن يعتري الكلام ما لا يجوز أن يعتري الكتب والرسائل من الأخطاء، حتى قالوا: "اللحن في الكتاب، أقبح منه في الخطاب"، ولعل الباعث على هذا التفريق بينهما؛ هو أنسهم بالكلام الشفهي قبل أنسهم بالكتابة، و"ما الحب إلا لحبيب الأولِ"!

بل ذكر صاحب أدب الكاتب أن: *_أكثر العلماء كانوا يتعمدون الخطأ النحوي في كلامهم؛ لئلا ينسبوا إلى ثقالة الطِّباع، فأما في الكِتاب وإنشاد الشعر؛ فإن ذلك قبيح غير جائز"._*

إنها الحقيقة شاخصة؛ _فلا تغضبوا معاشر الكُتَّاب.. فإن الكتابة قد تحمل رسائل الأشواق من بلاد إلى بلاد؛ لكنها لا تستطيع أن تطفئ نيرانها المتوهجة في الأكباد:_

*كتبت ولو قدرتُ هوىً وشوقًا*
*إليك لكنتُ سطرًا في الكتاب!*