دعم الحل السياسي في اليمن
مشهد لا يفارق مخيلتي بكل حزنه، ويغرقني في حالة قهر لا توصف، ذاك هو مشهد تدافع مئات الأشخاص في صنعاء آخر أيام رمضان المنصرم، ومقتل أكثر من ثمانين منهم دهسا.
تظهر صورة الفيديو التدافع وهلع الناس من صوت رصاص طائش لميليشيا منفلتة تريد أن تمنع عنهم بعض الصدقات التي يوزعها أحد التجار، كانت أصوات الاستغاثة تقطع نياط القلب، ليستقبل الناس عيد الفطر بعشرات الجنائز وسيل من الدموع بدلا من فرحة يتم اغتيالها كل يوم في يمن الحكمة!. فليست تلك صنعاء التي نحبها! أي اختطاف جرى لمدينة سام والوطن السعيد؟! ذاك سؤال القهر يبقى في صفحة الوجع إلى حين!. اتابع ما قيل إنها إجراءات للتحقيق في الفاجعة فلا أجد إلا تكرار فواجع.
الأسابيع الماضية شكا تجار صنعاء من قمع السلطات ومصادرة الأموال وفرض الإتاوات غير المنطقية، وأمس تم إكمال المشهد في اقتحام اتحاد الغرف التجارية والصناعية بصنعاء وتعيين مشرفين للميليشيات ممثلين عن القطاع الخاص.
الأمر في حقيقته أعمق من مجرد انفلات طائشين يريدون سرقة تاجر هنا أو الاستيلاء على الزكاة وصدقات الفقراء، إنه منهج تجريف متعمد للبلد برمته، فالقضية الاقتصادية هي حرب اليمن المسكوت عنها للأسف. ومؤخراً تعطل إنتاج النفط وهو أمر حاسم للاقتصاد بشدة، وقوض قدرة الحكومة على دعم البلد من خلال توفير الخدمات الأساسية، وأثر حتما على الوظائف العامة، حيث صار الوضع يهدد بعدم حصول الموظفين على رواتبهم بشكل منتظم.
لكن المسألة الاقتصادية أسوأ من مجرد أزمة معونات ودعم بقليل من الطحين، وتأخر في دفع الرواتب، هي كارثة أعمق حيث الجبهة الاقتصادية أكثر فتكا بالناس.
وقد عمد الحوثي في وقت مبكر إلى تجريف كل الأموال الخاصة بالشعب منذ ما كنا نطلق عليها فترة الهدنة الاقتصادية في ٢٠١٥. حيث تمت مصادرة كل الاحتياط النقدي لليمن من العملة الصعبة وتبخرت خمسة مليارات دولار على الأقل من البنك المركزي اليمنى الواقع تحت سيطرة الحوثي آنذاك في صنعاء، كما سيطر ونهب كل مدخرات واحتياط الصناديق السيادية المختلفة، وعندما تم نقل البنك إلى عدن كان ما تبقى هو أشلاء نظام مالي وكشف بالديون.
وعمد الحوثي على خلق نظام منفصل في السيطرة على الإيرادات ومضاعفة الضرائب وتضارب الجمارك، كما عمد على خلق عملة نقدية خاصة هي الأوراق القديمة التالفة وعدم اعترافه بالعملة الوطنية المطبوعة، وبالتالي خلْق واقع مزدوج للعملة الوطنية وسعر صرف آخر للعملة الصعبة، وصار هناك انفصال جاد للنظام المالي.
الكارثة الأكبر اختتمت محطتها بإصدار الحوثي قانونا سماه منع التعاملات الربوية للبنوك التجارية العاملة في صنعاء، وهو ببساطة نظام بنكي مستقل يتبع الجماعة ومشرفيها، ولا علاقة له بالدين والفضيلة ليكمل عملية فصل النظام المصرفي، وبموجب هذا الإجراء تمت مصادرة كل ودائع الناس وبدأت إجراءات جديدة لوضع اقتصادي منعزل، عمليا حتى يوفر الغطاء القانوني لكل الأموال المنهوبة وغير النظيفة، ليعيد تنظيفها بالنظام الجديد ويصبح غسيل أموال الحرب والتجارة غير المشروعة واقعا يصعب تجاوزه أو متابعته خلال الأيام القادمة.
الأمر يحتاج إلى وقفة يمنية جامعة وليس مجرد استنكار عابر، وإلى تدخل سريع وفوري تبدأ في جعل عدن كعاصمة مؤقتة بيئة آمنة للبنوك التجارية والمناخ الاقتصادي الآمن في اليمن.
وسرعة اتخاذ قرارات شجاعة بتوحيد العملة النقدية باليمن عبر خطوات فورية بمنع العملة القديمة التالفة وإكمال اتلافها، وتحمل تبعاتها ونقل إدارات البنوك التجارية الى عدن وحضرموت مثلا وتسوية الديون الداخلية لها التي على الدولة، من اذونات الخزانة، إلى وضع الرؤية الواضحة لإنقاذ العملية الاقتصادية التي تدخل اليمن في كارثة أشد من أي حروب عسكرية واسعة. فضرب الجبهة الاقتصادية بهذه المنهجية هو أشد مرارة على كل اليمنيين، ويصيب كل فرد في كل اليمن. حيث تم ضرب المنشآت النفطية من قبل الحوثي وتهديده الشركات ووقفه إيرادات الدولة الشرعية أمام نظر العالم وقوبل ذلك بصمت عجيب، والآن ضرب البنوك والقطاع الخاص في صنعاء وأمام نظر الجميع أيضا.
إن استمرار هذا الانهيار لا يعنى فشل مؤسسات الدولة ولكنها كارثة ستطول كل الناس، ليس فيها منتصر بمن فيهم تجار الحروب وصانعو الموت، ولا تؤسس لأى أفق للحل السياسي، بل تُعمق كارثة هي أسوأ حروب اليمن المنسية للأسف.